جزيرة جيملير تخفي بين صخورها أسرار الرهبان والقرون المنسية

تتوسط جزيرة جيملير مياه بحر مرمرة وتخفي بين صخورها تاريخًا طويلًا ظل بعيدًا عن أنظار الزائرين، إذ تقع على بعد كيلومترات قليلة من شواطئ إسطنبول لكنها تبدو كأنها عالم آخر، حيث الصمت والأنقاض القديمة التي تروي حكايات قرون مضت حين كانت الجزيرة مركزًا للرهبان والعبادة في العهد البيزنطي، فقد كانت تعرف باسم “كاليمنوس” وكانت تضم أديرة وكنائس كثيرة لا يزال بعضها قائمًا رغم تآكل جدرانه بفعل الزمن.
يُعتقد أن الجزيرة كانت مأوى لعدد من الرهبان الذين لجأوا إليها هربًا من الصراعات الدينية والسياسية التي شهدتها القسطنطينية، فبنوا هناك أماكن للعزلة والتأمل وأسسوا مجتمعًا صغيرًا عاش على الزراعة وصيد الأسماك، ومع مرور الوقت أصبحت الجزيرة مركزًا روحيًا يقصده المريدون، وقد كشفت التنقيبات الأثرية عن بقايا جدران تحمل نقوشًا دينية ورسومات لوجوه قديسين وأيقونات باهتة تعود إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
تحولت الجزيرة بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية إلى منطقة مهجورة نسبيًا، إذ غادرتها الجماعات الدينية تدريجيًا، ومع بداية الحكم العثماني أصبحت تابعة إداريًا لولاية بورصة لكنها لم تشهد تنمية عمرانية تذكر، وظلت خالية إلا من بعض الصيادين الذين استخدموها كمرفأ مؤقت أثناء مواسم الصيد، أما في فترات لاحقة فقد استخدمتها السلطات كمكان للعزل أثناء تفشي الأوبئة في القرن التاسع عشر.
تجذب الجزيرة اليوم اهتمام الباحثين والمهتمين بالتاريخ، إذ تعد مثالًا على مزيج الحضارات التي تعاقبت على منطقة بحر مرمرة، فقد شهدت آثارها مراحل متعددة من الترميم، وتخضع حاليًا لإشراف وزارة الثقافة والسياحة التركية التي وضعتها ضمن المناطق الأثرية المحمية، وتمنع فيها الأنشطة التجارية أو البناء للحفاظ على طابعها التاريخي، كما تنظم زيارات محدودة خلال فصول معينة من العام.
يصل الزوار إلى الجزيرة عبر قوارب صغيرة تنطلق من ميناء مودانيا أو غيمليك، وتستغرق الرحلة نحو نصف ساعة، وتتيح لهم التجول بين بقايا الأديرة والكنائس المتهدمة، ويلاحظ الزائر انتشار أشجار الزيتون والصنوبر التي تغطي أجزاء واسعة من الجزيرة، ويصفها كثيرون بأنها تجمع بين العزلة والجمال القاسي الذي يجسد ملامح التاريخ البيزنطي المنسي، ويعتبرها مؤرخون موقعًا ذا قيمة دينية وثقافية خاصة يعكس جانبًا مهمًا من حياة الرهبان في القرون الوسطى.
تسعى بعض الجمعيات الأثرية في تركيا إلى إدراج الجزيرة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، مشيرة إلى قيمتها التاريخية ودورها في تشكيل الذاكرة الدينية لبحر مرمرة، فيما يرى آخرون أن الحفاظ على عزلتها أفضل من تحويلها إلى وجهة سياحية مزدحمة قد تفقدها طابعها الفريد، وبين هذين الرأيين تبقى جزيرة جيملير شاهدًا صامتًا على زمن كانت فيه الروح أهم من الحجر، وكانت العزلة طريقًا للسلام الداخلي الذي بحث عنه الرهبان يومًا فوق صخورها.
المصدر: سوشيال ميديا





