السفر إلى بروج يكشف أسرار مدينة الماء والرومانسية

استحضرت الذاكرة صورًا متعددة عند الانطلاق من بروكسل نحو بروج، فقد ازدحمت الأفكار حول لون المدينة ومزاجها وشكل الحياة فيها، وعن ناسها وأجوائها الخاصة، بعضها وجدت له إجابة فور الوصول وبعضها بقي عالقًا بلا حسم.
تميزت المدن التي تحتضن الماء بقدرتها على جذب المسافرين، سواء كانت تطل على بحر أو تجاور نهرًا أو تحيط بها بحيرة، إلا أن بروج تذهب أبعد من ذلك، فالماء هنا هو سر الحياة وروح المكان، وهواؤها العليل ومياهها العاكسة يبعثان في النفس انتعاشًا خاصًا، ما جعلها مقصدًا للمحبين والباحثين عن الصفاء، حتى أطلق عليها “مدينة الرومانسية”.
تجولت في أزقتها الضيقة المكسوة ببلاط الحجر الذي يمنحها رونقًا خاصًا، وبين بيوت لا يتجاوز أغلبها طابقين تتدلى من نوافذها أصائص الزهور، وتتشابك على جدرانها نباتات تتحدى الزمن، فيما تنتشر القنوات المائية التي تعبرها أكثر من ثمانين جسرًا، الأمر الذي جعل البعض يصفها بـ”فينيسيا الشمال”.
امتزج الضوء المنعكس من المياه بصفاء وجوه أهلها الذين يحيون الغرباء ببشاشة، فشعرت أن الماء يحرر النفوس ويجعلها أكثر قربًا من الأماني، وكانت العلاقة بين الإنسان والمكان حاضرة في كل خطوة، حتى بدا لي أن بروج متحف مفتوح يوقظ الحواس، وهو ما يفسر إدراجها ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو.
خضت تجربة ركوب القارب الكلاسيكي، فكان المشهد من القنوات مختلفًا تمامًا، حيث بدت المدينة أكثر رقة من البندقية وأعمق تأثيرًا، واكتسبت أسطح المنازل القرميدية لونًا ذهبيًا تحت أشعة الغروب، بينما كانت الأشجار الكثيفة ترسم ظلالًا عابرة على الممرات المائية قبل أن يصل القارب إلى محطته الأخيرة.
أدركت أن بعض المدن تستولي على قلوب زوارها حتى يعجزوا عن مغادرتها، وبروج واحدة من تلك المدن التي تتركك معلّقًا بين الماضي والحاضر، تدخلها فلا تريد الخروج منها، وإن خرجت تبقى تحمل شوقًا خفيًا للعودة، وكأنها تربطك بحكاية لم تكتمل.
غادرت بروج وما زالت الأسئلة ترافقني، عن سر صمودها على الماء، وكيف حافظ أهلها على ملامحها قرونًا دون أن تمسها يد التغيير، وكيف جمعت بين عبقرية المكان وعبقرية الإنسان، لتبقى بحق مدينة الماء والرومانسية والتجارة، وتظل معجزة حية لوفاء أهلها لإرثهم.





