مهرجان ملح القريات يجذب الآلاف ويروي حكاية التراث السعودي

أحيا مهرجان “ملح القريات” ذاكرة التراث المحلي في منطقة الجوف، مجسدًا العلاقة التاريخية بين الإنسان والأرض، حين انطلقت فعالياته لتعيد إلى الأذهان مهنة “استخراج الملح” التي اشتهرت بها محافظة القريات شمال المملكة، في مشهدٍ احتفالي جمع بين الأصالة والاقتصاد والسياحة، ليؤكد مكانة المنطقة كوجهةٍ واعدة تحتضن تاريخًا ممتدًا في جذور المملكة.
وشكّل المهرجان الذي تنظمه أمانة منطقة الجوف ممثلة في بلدية القريات، منصةً حية لاستعراض مراحل استخراج الملح بالطريقة التقليدية، وهي المهنة التي منحت القريات لقب “قريات الملح”، حيث تبدأ العملية بتجميع مياه السبخات وتجفيفها بأشعة الشمس لتتشكل كتل الملح البيضاء التي يجمعها الأهالي بعناية، في مشهدٍ يعيد للذاكرة صورة العمل الجماعي وروح التعاون التي تميّز أبناء المنطقة.
وجذب المهرجان الذي انطلق الخميس الماضي أكثر من 20 ألف زائر خلال أيامه الثلاثة الأولى، وسط أجواء احتفالية جمعت الترفيه بالتاريخ، والتجربة بالمعرفة، ليكون بذلك أحد أبرز الفعاليات التراثية في شمال المملكة، إذ نجح في تقديم أكثر من 60 فعالية متنوعة شملت العروض الفنية والموسيقية، والبرامج الثقافية والتعليمية التي سلطت الضوء على حكاية الملح ودوره في حياة القريات قديمًا وحديثًا.
واستوقف المهرجان الزوار عند مشهدٍ لافت جسّده المشارك مسلم مبارك الجوفي، الذي عرض أمام الجمهور طريقة استخراج الملح باستخدام “القُفّة”، وهي أداة جلدية نصف دائرية تُستخدم لجمع المياه المالحة والسماح بتصفية الماء والإبقاء على الملح، إلى جانب أداة “المكحار” الخشبية التي تُستخدم في سحب المياه نحو القفة، ليتم بعد ذلك تجفيفها وتحويلها إلى ملحٍ جاهزٍ للاستخدام الغذائي.
وتعالت أصوات الأهازيج الشعبية القديمة خلال المهرجان، لتعيد أجواء الماضي حين كان العمال يرددونها أثناء جمع الملح، فيغنون بلحنٍ واحد لتخفيف مشقة العمل وإضفاء طابعٍ اجتماعيٍّ يملؤه الحماس والبهجة، حيث صدحت هذه الأهازيج في ساحات المهرجان لتربط الحاضر بالماضي وتُحيي ذاكرة المكان.
وبيّن الجوفي أن “سبخة كاف” كانت من أقدم المواقع التي يُستخرج منها الملح بعد تجمع مياه الأمطار والسيول فيها، بينما تُستخدم اليوم مواقع أخرى مثل “سبخة إثرة” التي أُنشئت فيها قنوات مستطيلة تُعرف باسم “المطوخ” لتجميع المياه وتجفيفها، إضافة إلى “القلبان” وهي الحفر العميقة التي تحفظ المياه حتى اكتمال عملية التبخير واستخراج الملح منها.
كما قدّم المهرجان سوق الملح الذي ضم أكثر من 70 جناحًا للأسر المنتجة والصناعات المحلية المرتبطة بالملح، إلى جانب متحفٍ مصغّر عرض أدوات وأواني قديمة استُخدمت في الممالح، مع ورش تعليمية تثقّف الزوار حول تاريخ المهنة وقيمتها الاقتصادية والاجتماعية.
وعكس مهرجان “ملح القريات” روح الانتماء والاعتزاز بتراث المنطقة، مُبرزًا دور الملح ليس فقط كموردٍ اقتصادي، بل كرمزٍ ثقافيٍّ يجسّد تاريخ الأهالي وحكايتهم مع الطبيعة، في تجربةٍ جمعت بين المعرفة والمتعة وكرّست حضور القريات كأحد أهم مراكز التراث الحي في المملكة.





