حيد الجزيل.. قصة قرية تتحدى الزمن وتختبئ بين جبال حضرموت

اعتاد اليمنيون منذ قرون على تشييد منازلهم فوق القمم الصخرية الشاهقة، بحثًا عن الأمان من الغزوات التي كانت تداهم أراضيهم من حين لآخر، فكان الارتفاع وسيلة للحماية كما كان رمزًا للهيبة والعزة، ومع مرور الزمن تحولت تلك القرى إلى شواهد حية على عبقرية الإنسان اليمني وقدرته على تحويل الصخور الصماء إلى بيوت نابضة بالحياة.
تربض قرية حيد الجزيل، أو كما يسميها أهلها “الجبل العظيم”، في قلب وادي دوعن بمحافظة حضرموت شرق اليمن، وكأنها قلعة من زمن آخر، تتحدى الرياح وتطل على الوادي بخيلاء الملوك، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن تاريخها يمتد لأكثر من خمسة قرون، بينما يؤكد بعض سكانها أن عمرها الحقيقي يتجاوز سبعمئة عام، مما يجعلها واحدة من أقدم القرى المأهولة في المنطقة.
تستقر القرية فوق صخرة شاهقة ترتفع نحو 300 متر عن الوادي، تحيط بها واحة خضراء من المزارع التي تنبض بالحياة على مدار العام، وتُعد الطريق المؤدية إليها مغامرة قائمة بذاتها، إذ يجب على الزائر أن يتسلق درجًا حجريًا منحوتًا بعناية في الصخر يمتد لعشرات الأمتار، تتخلله منعطفات ضيقة وشواهق تُشعر الزائر بروعة المكان وخطورته في آن واحد، ليصل في النهاية إلى بوابة حجرية تُغلق ليلًا كما كانت تفعل الأجيال القديمة لحماية البلدة.
تضم “حيد الجزيل” ما بين ثلاثين وأربعين منزلًا متراصة فوق بعضها كأنها منحوتة من قلب الجبل ذاته، مبنية من الطين الممزوج بالقش فيما يُعرف محليًا بـ”اللبن”، وهي مادة كانت تُنقل على ظهور الدواب من الوادي، وتُستخدم في تشييد الجدران القوية القادرة على مقاومة الزلازل والعوامل الطبيعية القاسية، كما تفصل بين طوابق المنازل أعمدة خشبية من شجر السدر المتين الذي استخدمه اليمنيون منذ القدم في البناء لما يتمتع به من صلابة ومتانة عالية.
يقول الباحث في التراث الحضرمي عمر باغبار العمودي إن هذه الطريقة في البناء لم تكن مجرد تقنية معمارية، بل كانت فلسفة حياة، إذ صمم الأهالي منازلهم لتكون صديقة للبيئة ومتكيفة مع المناخ، فالجدران الطينية تحفظ البرودة صيفًا والدفء شتاءً، فيما توفر الأسطح المغطاة بخشب السدر حماية إضافية من الأمطار.
ويضيف أن الاسم “حيد الجزيل” يجمع بين كلمتين من اللهجة الحضرمية، فـ“الحيد” تعني الجبل، و“الجزيل” تعني العظيم، ليصبح معناها الكامل “الجبل العظيم” وهو ما يصف طبيعتها المهيبة بدقة.
تطل القرية من موقعها المرتفع على مشهد بانورامي يخطف الأنفاس، فأسفلها يمتد وادي دوعن الذي اشتهر عبر التاريخ بإنتاج أجود أنواع العسل اليمني المعروف بالعسل الدوعني، وتتناثر حولها المزارع التي تنتج التمور والخضروات والحمضيات والبقوليات، بينما يُسمع هدير النهر الصغير القريب منها كأنما يروي قصة الخصب الذي أنبت الحياة وسط الصخر، وهو النهر الذي اعتمدت عليه أسر القرية منذ مئات السنين كمصدر أساسي لمياه الشرب والري.
ورغم أن الوصول إلى “حيد الجزيل” يبدو تحديًا شاقًا، إلا أن مشقة الطريق تتلاشى أمام سحر المكان الذي يأسر الزوار بجماله، فالممرات المتعرجة بين المنازل العالية تكشف عن أبواب خشبية منقوشة بزخارف هندسية دقيقة، تعكس ذوقًا فنيًا راقيًا وتاريخًا معماريًا عريقًا.
وكل زاوية في القرية تروي حكاية، وكل حجر فيها يهمس بسر من أسرار أجداد عاشوا على القمم، متحدّين الطبيعة ومخلّدين أسماءهم في ذاكرة المكان.
تظل “حيد الجزيل” شاهدًا على براعة اليمنيين في تحويل الجغرافيا إلى هوية، إذ جمعت بين الحصن والجمال، بين القسوة والرقة، لتبقى “جوهرة دوعن” واحدة من أجمل القرى الجبلية التي ما زالت تحافظ على أصالتها رغم مرور القرون وتغير الأزمنة، إنها حكاية قرية صمدت في وجه الزمن، وواصلت الحياة في أعلى نقطة من حضرموت، كأنها تنظر للعالم من علٍ، رافعةً راية التاريخ والذاكرة فوق قمم الجبال.
المصدر: الجزيرة نت





