وجهات سياحية

أودية جازان تنسج حكاية الحياة والزراعة والسياحة عبر العصور

تجسد أودية جازان تنوع الحياة الزراعية والثقافية والسياحية في المنطقة، وتشكل عنصرًا رئيسيًا في هوية المكان، إذ تمتد من سفوح الجبال الشرقية لتنحدر نحو السهول والقرى، وتنساب مياهها عبر العصور لتغذي الأرض وتعيد خصوبتها، فتنمو الذرة والسمسم وتزدهر المراعي وتتعانق الأشجار في مشهد طبيعي يعكس عمق العلاقة بين الإنسان والأرض، حيث ارتبطت حياة الأهالي بجريانها الذي كان نذير موسم جديد يحمل الخير والعطاء.

تحولت هذه الأودية إلى معالم معروفة بجمالها وغناها البيئي، وبرزت كرموز للحياة في جازان بما تحمله من تاريخ ضارب في القدم، إذ ظلت محورًا للحركة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأضحت مقاصد سياحية تستقطب الزوار من مختلف أنحاء المملكة، لما تمتاز به من مناظر خلابة تجمع بين السهول الخضراء وحقول الذرة وأشجار الأثل والنخيل والسمر، وهي لوحة طبيعية تختزل إرث المنطقة الزراعي الممتد منذ قرون.

وثّق المؤرخون هذه الأودية في مؤلفاتهم، فذكر الهمذاني وادي تعشر والمغيالة وخلب وليه وصبيا وبيش، كما أشار إليها ياقوت الحموي وعبدالله النعمان في مصنفاتهم، وجاء ذكرها في قصائد الشعراء الذين وصفوا مشاهد السيول ومواسم الزراعة، مما جعلها جزءًا من الذاكرة الأدبية والتاريخية لجازان، إذ تكررت في النصوص كرمز للخصب والاستمرار والعلاقة الوثيقة بين الإنسان والمكان.

يشير الباحث محمد أبوعقيل إلى أن جريان الأودية لم يكن مجرد حدث طبيعي بل مناسبة ينتظرها الأهالي بشغف، تبدأ مع صوت الرعد وعبق “الخَبَان” الذي يبشر بالسيل، فيتأهب المزارعون لاستقبال الماء المتدفق نحو “العقوم” التي تُقام لتنظيم الري وتقسيم المياه بين الحقول، فتعم الفرحة القرى مع انطلاق موسم الزراعة الذي يحدد ملامح العام الجديد.

يشكل هذا الجريان المتجدد دورة حياة زراعية متكاملة، تبدأ بموسم “الخريف” في الثالث والعشرين من أغسطس، ثم “مذرة المخرط” في السادس عشر من أكتوبر، يليها موسم “السعودات” في الحادي والثلاثين من ديسمبر، وصولًا إلى موسم “المقدم” في الثامن والعشرين من يناير، حيث تتعاقب مواسم الذرة بأنواعها والسمسم ومختلف المحاصيل التي تملأ الأسواق وتغذي الاقتصاد المحلي.

تؤكد أودية جازان اليوم مكانتها كرافد للحياة في المنطقة، إذ لم تفقد قيمتها رغم تغير الزمن، بل أصبحت مقاصد سياحية مفتوحة تستحضر ذاكرة الزراعة القديمة وتربط الماضي بالحاضر، وتشهد على علاقة الإنسان بالماء والتراب، وتقدم نموذجًا حيًا لاستدامة البيئة في واحدة من أغنى مناطق المملكة تنوعًا وأعمقها ارتباطًا بجغرافيا العطاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى