معلولا السورية تعود إلى الضوء وتستعيد هدوءها بعد قرون من الصمت

تنبض معلولا بالحياة وهي تستعيد مكانتها بين الجبال، وتنهض من بين طبقات التاريخ كأنها تكتب فصلا جديدا في مسيرة بلد أنهكته الحروب.
تقع البلدة على بعد ستة وخمسين كيلومترا شمال شرق دمشق، وتعد واحدة من أقدم القرى المأهولة في العالم، حيث تحتفظ بتراثها المسيحي العريق، وتبقى من بين الأماكن القليلة التي لا يزال سكانها يتحدثون اللغة الآرامية القديمة التي تكلم بها السيد المسيح.
تعيش معلولا بتوازن فريد يجمع بين أغلبية مسيحية وأقلية مسلمة، ويستمر هذا التناغم منذ مئات السنين، فتبدو البلدة كجسر بين الديانات، وفضاء صغير يجسد روح التعايش السوري، يستعمل بعض سكانها اللغة الآرامية إلى جانب العربية، مما جعلها وجهة علمية مهمة للباحثين في اللغات السامية القديمة، وتحتفظ البلدة بمكانة خاصة لدى منظمة اليونسكو التي اعتبرتها إرثا لغويا وإنسانيا نادرا.
تستقر البلدة في حضن جبال القلمون، وتحيط بها صخور شاهقة تمنحها مظهرا مهيبا، بينما يروي اسمها الآرامي “معلولا” معنى المدخل أو الممر، في إشارة إلى الفج الصخري الذي يشق قلب الجبل، وهو الممر المعروف باسم “فجّ مار تقلا” الذي يروى أنه انشق لتنجو منه القديسة تقلا من ملاحقة الجنود، ويقع بالقرب من هذا الفج دير مار تقلا الذي يعد من أهم المعالم الدينية في البلدة.
تحتفظ معلولا بتاريخ طويل يمتد لآلاف السنين، فالحفريات في صخورها تشير إلى أن الإنسان سكنها منذ عصور ما قبل التاريخ، مرت عليها حضارات آرامية ويونانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، وتركت كل منها بصمتها في الحجر والعمارة والعادات، حتى أصبحت البلدة متحفا مفتوحا يروي قصة الشرق منذ بداياته الأولى.
تضم البلدة أديرة وكنائس من أقدم المباني الدينية في العالم مثل دير مار سركيس ودير مار تقلا، اللذين يعود تاريخهما إلى القرن الرابع الميلادي، وهما شاهدان على حقبة ازدهار مسيحي طويل عاشته المنطقة، كما تحتفظ معلولا بجامع قديم أعيد ترميمه منتصف القرن الماضي، ليبقى رمزا لوحدة المكان وتعدد العقيدة.
يعتمد سكان البلدة على السياحة كمصدر أساسي للدخل، فالمعالم الدينية والطبيعية تجذب الزوار من داخل سوريا وخارجها، ويزيد من سحرها طابعها المعماري الفريد، حيث تتراكم البيوت فوق بعضها على السفوح الصخرية كأنها جزء من الجبل نفسه، في مشهد يختصر العلاقة القديمة بين الإنسان والطبيعة.
تعرضت معلولا خلال السنوات الماضية لتراجع اقتصادي حاد مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، فتأثر قطاع السياحة وتراجع عدد الزائرين، واضطر كثير من سكانها إلى النزوح، غير أن السنوات الأخيرة شهدت عودة تدريجية للحياة في شوارعها القديمة، إذ بدأت البلدة تستقبل الزوار من جديد، وتعمل الجهات المحلية على ترميم الأديرة والطرق والمنازل المتضررة.
تحمل معلولا في ملامحها ما يشبه رسالة إلى العالم، رسالة عن البقاء والتمسك بالجذور رغم الصراعات، إنها بلدة صغيرة لكن صوتها يمتد بعيدا لأنها تذكّر بأن في سوريا أماكن لا تزال تحفظ روحها الأولى، وأن التاريخ مهما تكسر يبقى قادرا على النهوض من تحت الحجارة.
المصدر: الجزيرة نت





