فن القط العسيري يتجدد بدعم مؤسسي وتدريب وطني شامل

انطلقت جهودٌ واسعة لإحياء فن “القط العسيري” كواحد من أبرز رموز التراث الثقافي غير المادي في المملكة العربية السعودية، حيث تواصل المؤسسات الثقافية دعمها لهذا الفن النسائي الأصيل الذي زخرفت به نساء عسير جدران منازلهن لقرون، فحولنه إلى لغة بصرية نابضة بالألوان والحياة تعبّر عن الهوية والتاريخ والوجدان الجمعي لسكان المنطقة.
ويأتي هذا الاهتمام المتنامي في ظل رؤية سعودية تسعى إلى حماية الموروثات الأصيلة، وتمكين الأجيال الجديدة من إعادة اكتشافها، وإدماجها في حاضر يتقاطع فيه الإبداع الفني مع الوعي الثقافي والاقتصادي.
يتميز “القط العسيري” بزخارفه الهندسية الدقيقة التي تتناغم فيها الأشكال المثلثة والمربعة والدوائر في توليفة فنية تنبض بألوان زاهية مثل الأحمر والأصفر والأزرق، ما يمنح كل جدار قصة تعبيرية تنبع من خصوصية أهل البيت، وتوثق لحظاتهم ومناسباتهم الاجتماعية بلغة تشكيلية لا تخطئها العين.
وقد توارثت نساء عسير هذا الفن جيلاً بعد جيل، ليبقى شاهدًا حيًا على الدور الريادي الذي لعبنه في حفظ ملامح الهوية المحلية وتوثيقها بالريشة واللون عبر جدران الطين والحجر.
وعلى الصعيد العالمي، نال فن “القط العسيري” اعترافًا كبيرًا حين أدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية، ليصبح سفيرًا بصريًا يمثل المملكة عالميًا، ويجسد في ذات الوقت عمق الحكاية السعودية المرتبطة بالبيئة، والتاريخ، والدور المركزي للمرأة في الحياة الثقافية.
ولا عجب أن يشهد هذا الفن مؤخرًا إقبالًا من المهتمين بالفن الشعبي والحرف اليدوية، خاصة بعد أن أدخلته المؤسسات في مجالات التصميم المعاصر، والمنتجات الإبداعية، ما ساعد في ترسيخ قيمته الاقتصادية والفنية في الأسواق المحلية والدولية.
في هذا السياق، أعلن المعهد الملكي للفنون التقليدية “ورث” بالتعاون مع شركة السودة للتطوير عن إطلاق برنامج تدريبي متخصص بفن القط العسيري خلال الفترة من 27 إلى 31 يوليو 2025، في منطقة عسير.
ويهدف هذا البرنامج إلى تعزيز المهارات الوطنية، ونقل المعرفة المتجذرة في هذا الفن إلى الأجيال الجديدة من خلال التدريب العملي على تقنيات الرسم وصناعة الألوان المستوحاة من الطبيعة، مع التعرّف إلى أساليب الزخرفة التقليدية ومضامينها الجمالية.
وتعد هذه المبادرة استمرارًا لجهود المعهد في تنمية الفنون والحرف كرافد من روافد الاقتصاد الإبداعي، من خلال تمكين الشباب من استلهام الماضي وتوظيفه في منتجات معاصرة تعكس التراث وتثري الهوية.
ولا يقتصر الأثر المتوقع لهذا البرنامج على الجانب الفني فحسب، بل يمتد إلى آفاق أرحب تتعلق بتمكين المرأة، وخلق فرص عمل في قطاع الحرف اليدوية، وربط التراث بالمشاريع السياحية الجديدة في منطقة السودة، التي تعد من أبرز وجهات رؤية السعودية 2030.
وهكذا، يُبعث القط العسيري من جديد لا كفن جدران فقط، بل كأداة ثقافية واقتصادية، تنقل إرث الجدّات إلى فضاءات الحاضر بثقة وجمال، وتعيد الاعتبار لفن ظل طويلًا حكرًا على البيوت، فصار اليوم حكاية وطن تُروى بلغة اللون.





