بلغراد تروي قصة حضارات على ضفاف نهرين

تقف مدينة بلغراد، عاصمة جمهورية صربيا، شامخةً عند نقطة التقاء نهري السافا والدانوب، في مشهد جغرافي نادر يختصر قروناً من التاريخ والصراعات والتلاقح الثقافي، حيث تلتقي مياه النهرين وسط تضاريس تمثل نقطة التماس بين السهل الپانوني الذي يهيمن على أوروبا الوسطى، وشبه جزيرة البلقان التي كانت وما زالت من أكثر مناطق القارة الأوروبية توتراً وتنوعاً على حد سواء.
هذا الموقع الاستراتيجي جعل من بلغراد مدينة ذات طابع خاص، جمعت في ملامحها بين التأثيرات الغربية والشرقية، وكانت شاهدة على أحداث ومحطات غيّرت وجه أوروبا.
تتميّز بلغراد بموقعها الجغرافي الحيوي الذي منحها أهمية اقتصادية وعسكرية منذ العصور القديمة، فوجودها على ملتقى أهم نهرين في المنطقة جعلها مركزاً للتجارة والعبور بين الشمال والجنوب، كما وفّر لها إمكانات كبيرة في مجالات النقل والملاحة، وأسهم في تطورها العمراني والمعماري المتسارع.
وقد عرفت المدينة باسم “القلعة البيضاء” في اللغات السلافية، نسبة إلى القلعة التاريخية التي كانت تطل على التقاء النهرين وتُستخدم كحصن دفاعي عبر قرون.
شهدت بلغراد تحولات كبرى عبر العصور، إذ كانت موطناً للعديد من الحضارات، من بينها الرومان والبيزنطيون والعثمانيون والنمساويون، وكلّ منهم ترك بصماته الواضحة في المعمار واللغة والثقافة.
ولا تزال شوارع المدينة القديمة تحتفظ بطابعها التراثي الممزوج بالعناصر العصرية، في تداخل يعكس روح مدينة لا تنفصل عن ماضيها رغم انفتاحها على المستقبل.
وتضم المدينة معالم بارزة مثل قلعة كاليمغدان، وكاتدرائية سانت سافا، وساحة الجمهورية، إضافة إلى أحياء نابضة بالحياة كـ”سكادارليا” الذي يُعد القلب الثقافي لبلغراد.
لم تكن بلغراد بمنأى عن العواصف السياسية التي هزّت منطقة البلقان في القرن العشرين، فقد تأثرت بشكل مباشر بالحروب اليوغوسلافية، وتعرضت لقصف جوي في عام 1999 خلال تدخل الناتو، إلا أن أهلها أعادوا بناء المدينة بإصرار، وحافظوا على هويتها المتعددة، في نموذج يعكس قدرة الشعوب على تجاوز جراح الماضي والانطلاق نحو المستقبل.
وفي الوقت الحاضر، تواصل بلغراد لعب دورها كمركز ثقافي وسياسي رئيسي في جنوب شرق أوروبا، إذ تستضيف فعاليات دولية، ومؤتمرات سياسية، وتزدهر فيها الفنون والموسيقى والمهرجانات، ما يعزز من مكانتها كوجهة أوروبية فريدة تجمع بين الأصالة والحداثة في آن واحد.
وتبقى بلغراد مدينة عابرة للحدود، تتكئ على ماضيها العريق، وتطل من ضفاف السافا والدانوب على غدٍ يزدهر بالحياة والانفتاح.
المصدر: مدن العالم بين يديك





