بروج تحتفظ بتاريخها وسط الماء والحجر
احتفظت مدينة بروج البلجيكية، رغم مرور القرون، بهويتها المعمارية وسحرها التاريخي الذي يعود إلى العصور الوسطى، حيث ظلت هذه المدينة الواقعة في شمال بلجيكا واحدة من أبرز المدن الأوروبية التي تشكل رمزاً للهدوء والثقافة والجمال البصري، بينما ترتبط جذورها بالقرن الثاني عشر عندما ازدهرت كميناء تجاري مهم امتد نفوذه حتى القرن الخامس عشر.
ورغم التحولات الكبيرة التي شهدتها أوروبا، حافظت بروج على نسيجها الحضري وبنيتها العمرانية، وهو ما جعلها لاحقًا ضمن مواقع التراث العالمي المسجلة لدى منظمة اليونسكو.
قادتني الرحلة إلى بروج قادماً من بروكسل، ورافقتني أسئلة كثيرة حول ملامح هذه المدينة التي يصفها كثيرون بأنها قطعة نادرة من الذاكرة الأوروبية.
ولدى الوصول، تكشف المدينة عن طابعها الخاص، حيث يشكل الماء فيها عمود الحياة، ولا تكاد تخلو من حركة السائحين على مدار اليوم.
الهواء نقي، والمشهد العام مريح، والمدينة تتحرك بنسق هادئ لا يشبه غيره، وهو ما يجعلها بيئة مثالية للراغبين في استعادة توازنهم الذهني بعيداً عن صخب المدن الحديثة.
سرت في أزقتها الضيقة التي تزينها الأرصفة الحجرية والبيوت القديمة ذات الطابقين، وتكسو جدرانها نباتات وزهور تتدلى من الشرفات، وكأن الزمن توقف عند لحظة من النقاء.
اجتزت عشرات الجسور الصغيرة التي تربط جانبي القنوات المائية المنتشرة في البلدة، والتي يزيد عددها عن ثمانين جسراً، ما جعل البعض يصف بروج بأنها “فينيسيا الشمال”.
قابلت أشخاصاً لا أعرفهم، فحييتهم وحَيُّوني بود واضح، وكأن ضوء الماء يضفي على الوجوه صفاءً خاصاً ويعيد للنفوس توازنها الداخلي.
خضت تجربة القارب الكلاسيكي، أحد أفضل وسائل استكشاف المدينة من منظور مختلف، حيث بدت المنازل القرميدية التي تطل على القنوات وكأنها لوحات مرسومة بإتقان، جذبتني التناسقات بين الحجر والماء والسماء، خصوصاً مع بزوغ الشمس في الأفق وغروبها خلف الأشجار الكثيفة، وهو مشهد يندر تكراره في مدن أخرى.
تلك اللحظات أثارت في ذهني سؤالًا بسيطًا عن الرابط بين الإنسان والمكان، وكيف استطاع أهل بروج الحفاظ على مدينتهم بهذه الصيغة الأصيلة.
خرجت من المدينة ومعي إحساس بأنها ليست مجرد موقع جغرافي، بل تجربة متكاملة، حيث لا يملك الزائر إلا أن يتعلق بها ويرغب في العودة، بروج ليست مدينة للعابرين، بل ملاذ لكل من يبحث عن معنى آخر للسفر، وتاريخ لا يزال ينبض وسط الماء والحجر.
